"خالد" وحكايته مع الجهاد الإسلامي وصموده في التحقيق حتى الشهادة

في الذكرى الـ28 لاستشهاده

بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين

اذا كان من حق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- كما ينصفها التاريخ- أن تفخر بأنها هي من وضعت فلسفة المواجهة خلف القضبان، وهي من عززت من ثقافة الصمود في أقبية التحقيق، وقدمت شهداء كثر، ونماذج كثيرة، وتجارب فردية وجماعية عديدة في هذا السياق. فان من حق الفصائل الفلسطينية أن تفخر هي الأخرى بأن لديها من التجارب الكثيرة في الصمود والبسالة وعدم الاعتراف في أقبية التحقيق، وأن العديد من عناصرها وقياداتها سجلوا انتصارات مبهرة على المحققين، وفضلوا التضحية بالحياة والاستشهاد على أن تتحرك عضلة ألسنتهم وتبوح ولو بكلمة واحدة، بحثا عن الخلاص الفردي.

هكذا هو التاريخ الفلسطيني في مقاومة الاحتلال داخل السجون وفي أحلك اللحظات وأقساها ألما وتعذيباً، وإننا اليوم أمام تجربة نوعية ومشرقة سجلها أحد أعضاء حركة "الجهاد الإسلامي" في فلسطين، واسمه "خالد الشيخ علي" ومن حق حركته وإخوانه ورفاق دربه أن يفتخروا به وبصموده الأسطوري دوما، وتجربته المشرقة التي شكلت منارة للآخرين في مقاومة السجان. كما ومن حقهم أن يفتخروا اليوم بأن من فجر في السجون موجة الإضرابات الفردية عن الطعام خلال الست سنوات الأخيرة ، هم من عناصر "الجهاد الإسلامي" وقياداته.

"خالد كامل الشيخ علي" شاب فلسطيني ينحدر من عائلة هاجرت من عسقلان بعد النكبة عام 1948م واستقرت بها الحال في مخيم رفح جنوب قطاع غزة، فولد شهدينا هناك في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1962، قبل أن تنتقل الأسرة ويستقر بها الحال للعيش في مدينة غزة. فانتمى لفلسطين الأرض والهوية، قبل أن يتخذ من الجهاد طريقاً، ومن حركة الجهاد الإسلامي أداة لممارسة واجبه الوطني والإسلامي في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. فكان أحد أبطالها، وواحد من أولئك الذين اتخذوا من خيار المقاومة والجهاد نهجاً استراتيجيا، حتى النصر أو الاستشهاد. فكان له ما أراد و ما كان يحلم بتحقيقه. وسجل اسمه بحروف من نور في سجل من حققوا النصر والشهادة في أصعب الظروف وأكثرها قهراً. في أقبية التحقيق.

اعتقل "خالد" على خلفية اتهامه بالمشاركة والمسؤولية عن عملية الشيخ عجلين التي أعلنت حركة الجهاد الإسلامي مسؤوليتها عن تنفيذها في السادس عشر من تشرين ثاني/نوفمبر عام1989 وقتل فيها جنديين إسرائيليين، وتعرض منذ لحظة اعتقاله إلى صنوف مختلفة وقاسية من التعذيب، قبل أن يُنقل إلى قسم التحقيق في سجن غزة المركزي والذي كان يُصف بـ"المسلخ"، ويمارس بحقه أبشع أساليب التعذيب بهدف انتزاع الاعترافات منه وتقديم المعلومات عن باقي أفراد مجموعاته ورفاقه في المقاومة الفلسطينية، إلا أن الشهيد تسلح بقضية عادلة، وبإيمان راسخ بحتمية الانتصار، واصر على أن يُبقي عضلة لسانه ساكنة دون حركة، وأن يصون أسرار حركته وأخبار إخوانه في الجهاد والمقاومة، فاختار الصمود وحقق الانتصار على جلاديه، فنال الشهادة. وما أروع الشهادة في سبيل الله والوطن والقضية، بعد نصر تحقق في معركة غير متكافئة وفي ظروف هي الأقسى. حطمت فيها وحشية السجان وقُهرت (أسطورته).

لقد كنت حينها هناك أسيراً، و شاهداً على الحادثة. ومعي نحو عشرين أسيرا مصطفين على جانبي الممر، أو كما كنا نُطلق عليه (الباص). وعلى الرغم من وجود الأكياس النتنة ذات الألوان الداكنة على رؤوسنا، إلا أننا شعرنا ودون جهد باستنفار رجال المخابرات، وأن صرخاتهم وأصواتهم صدحت عاليا في المكان ولا زالت ترن في آذاننا، وفجأة جاءوا ووضعوا حاجزاً بشريا خلفنا كي لا يرى أي منا ولو مشهد واحد من ثقب محتمل في الكيس،. وأحسست حينها أن شيئا كبيرا قد حدث. لكننا فهمنا من أحاديثهم بالعبرية بأن شيئاً ما قد حصل لأحد الأسرى. هم لا يريدون له أن يموت قبل أن يفشي بما لديه من أسرار ومعلومات رغما عنه تحت وطأة التعذيب وبشاعته. كان ذلك في مثل هذه الأيام الباردة وفي التاسع عشر من شهر كانون أول/ديسمبر عام 1989، ليرتقي "خالد" شهيداً نحو العلا ، ويلتحق بشهداء فلسطين الأبرار، ويسجل اسمه بفخر وعزة في سجل الخالدين وقائمة شهداء الحركة الأسيرة.

لقد كان قد مضى على وجودي في المسلخ بشكل متواصل قرابة الثلاث شهور. واذكر ذلك اليوم بتفاصيله جيدا وبوضوح تام وكأنه صورة أمامي. كما واذكر تلك الفترة القاسية في مسيرة التحقيق وبشهادة من اعتقل وتعرض للتعذيب في فترات سابقة. واعتقد جازما بأن كل من مرّوا على غرف تحقيق غزة في تلك الفترة، وأيا كانت تهمتهم أو انتماءاتهم، يدركون ما أقول. فالتجربة جماعية، والألم أصاب الكل، والقسوة طالت كافة المعتقلين من مختلف التنظيمات الوطنية والإسلامية. حقا كانت صعبة وقاسية واستشهد خلالها وجراء التعذيب في سجن غزة ثلاثة أسرى، وهم (جمال أبو شرخ، خالد الشيخ علي، عطية الزعانين).

خالد .. مت ورحل جسدك عن أهلك وزوجتك وطفلتك، وتركت مكانك فارغا بين أصدقائك وأحبائك وإخوانك، لكنك بقيت وستبقى خالدا، ليس فقط في قلوب أسرتك ومن عايشك وعرفك وشاركك النضال، وفي قلوب إخوانك في حركة الجهاد الإسلامي، بل ستبقى خالداً في قلوبنا جميعا، في قلوب كل الفلسطينيين وأحرار العالم أجمع، فنم قرير العين يا بطل.