فلسطينيون "رهائن" في مقابر الأحياء!

لا نهاية للدوامة "الخبيثة" التي تتيه فيها صبحية يونس، صباح مساء، "صفقة للإفراج عن الأسير كريم يونس المعتقل قبل اتفاقية أوسلو.."، "يبدو أن الصفقة قد أُلغيت في ظل تعثر المفاوضات مع الاحتلال"، بين النبأين يعجُّ خدَّاها المجعدان بالدموع الحمراء، وينطفئ أيُّ فرح تسلل خلسةً إلى قلبها المكلوم.
"أركان" هذه السبعينية مُنهكة تمامًا، حتى الدنيا بكت معها، وحُمرة الدموع تحولت إلى سواد، كحلكة الزنازين التي يزج الاحتلال فيها ابنها كريم يونس، منذ 32 سنة، وأروقة المفاوضات التي تتبعثر فيها أوراق مفاوضي السلطة الفلسطينية، أمام جبروت الاحتلال على الأرض.
"والله يا خالتي عايشين في دوامة، على أعصابي، مرة بيقولوا بده يطلع ومرة مش موافقين، عايشين زي اللي بنحلم حلم، مش عارفين شو بدنا نعمل، بيقولوا (رئيس السلطة محمود عباس) أبو مازن طلب الإفراج عنه"؛ واصل قلبها الانفطار على "كبدها".
القوة الوحيدة هنا هي قوة "التيه" المغيّمة على حياتها، كريم هو ابنها الأكبر، دخل عالم البشر يوم ولدته في 23/11/1958م، قبل أن يلحق به ثلاثة أشقاء، وشقيقتان، أكمل دراسته الثانوية، ثم انتقل إلى جامعة بئر السبع ليدرس الهندسة.
لم يتمكن كريم من إتمام الدراسة، محروم هو من حقوقه الإنسانية، بحكم الاحتلال الذي اغتصب أرض آبائه وأجداده، منذ سنة 1948، نفس اليد التي هجرت الفلسطينيين من ديارهم، حرمته من الدراسة، مذ كان في السنة الثانية تقريبًا من حياته الجامعية.
و بحسب نديم (أخوه 46 عامًا)، سمعت العائلة طرقًا غريبًا في منتصف ليلة الخامس من يناير/ كانون أول 1983م، كان طرق قوات الاحتلال، لكن الأخيرة لم تجد كريم في البيت، فحملت عدتها وعتادها و"قرفها"، متجهةً إلى حرم جامعة بئر السبع، حيث يتواجد "الضحية" هناك.
"ألا تخجلون؟ إنكم تنتهكون حرمة الجامعة، وتشنون الاعتقالات هنا، لو كان المطلوب صهيوني لما دخلتم الجامعة"، صاح بهم كريم، قبل أن يتم اعتقاله فعليًّا، بتهمة أنه فلسطيني ينتمي إلى العروبة! ثم اتهامه بقتل جندي صهيوني.

"صدمة.."!
خضع للتحقيق وطالت المحاكمات لسنة كاملة، لكن لم يثبت ضده أي شيء، لذلك يقول نديم: "إن الاحتلال أسرع قبل انتهاء السنة الأولى من اعتقاله بيوم، وحكم على شقيقي بالإعدام شنقًا، مع وقف التنفيذ، وقمنا بالاستئناف، وتم تخفيض الحكم إلى مؤبد مدى الحياة".
وكالعادة تمر السنين العجاف، والاحتلال ينغص عليهم الحياة، يسمح لأقارب الأسير من الدرجة الأولى، بزيارته كل أسبوعين مرة، لمدة 45 دقيقة، أو بالأحرى زيارته "عن بعد"، نعم، فثمة فاصل زجاجي يغرسه الاحتلال بينهم، والحديث عبر سماعات الهاتف ليس إلا، ولا "احتكاك" جسديًا هناك بين الأسير وذويه، بل التحام قلبي.
صحيح أن كريم الآن أسير في سجن "هداريم" الصهيوني، يفصل بينه وبين والدته الاحتلال، والظلم، وجبروت السّجان، غير أن ما يفصله عن والده هي المسافة التي بين الأرض والسماء.!
"
يسلم راسك يا كريم"، هذه الجملة تخفي عادة وراءها هول مصيبة جلل، فعلاً كان الأسير مروان البرغوثي يواسيه قبل سنة وشهرين، تقريبًا، في رحيل والده إلى الآخرة، فشرد بذهنه، وانصدم، كما تقول المسنة صبحية، ولا تزال دموعها تنهمر.
والاحتلال كعادته ينسف قواعد الإنسانية في التعامل مع الفلسطينيين والأسرى منهم خاصةً، فلا "رحمة" في سياساته، ولا شفقة منه بالقانون الدولي الذي يضرب به عرض الحائط، وبهذا المعنى، يعيش كريم في وضع مأساوي في سجنه الذي لا أحد يعلم إن كان سيغادره قريبًا.
انبعث الأمل في نفوس العائلة، مؤخرًا، بعدما أوشكت قوات الاحتلال أن تعصر "ليمونة" على نفسها، وتفرج عنه، ضمن الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو، في سبيل استمرار المفاوضات مع السلطة، تلك المفاوضات التي يتخذها الاحتلال كغطاء لتنفيذ مخططاته.
لكن إجراءً صهيونيا مهما كان ماكرًا وظالمًا، كقرار التراجع عن الإفراج عن الدفعة الرابعة، والذي اتخذه الاحتلال، لا ينال من عزيمة هذا الأسير، يقول نديم: "إن أخي كان يتوقع أن تكون هناك مماطلة وتأخير، وكان يطمئننا، حتى لا نتفاجأ إن حدث ذلك، ويخبرنا أنه سيتحرر في نهاية المطاف".
الجميع يدرك وبلا لبس حتى مع الأمل الذي لم ينطفئ في نفوس العائلة، أن "الصدمة" قد وقعت، فكريم الذي لم يحالفه الحظ في الزواج حتى يومنا هذا وما سمع يومًا كلمة "بابا"، لم يتحرر من قيود الاحتلال بعد!
ثمة "ابتزاز" في تراجع الاحتلال عن اتخاذ قرار بالإفراج عن الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو التي يلعنها الإجماع الوطني الفلسطيني، يفسّره نديم بأنه "محاولة لابتزاز السلطة، وانتزاع إنجازات سياسية منها".
هو يرى أن الاحتلال يتخذ أخاه وبقية الأسرى "كرهينة داخل السجون، ويناور فيما يتعلق بالإفراج عنهم، ليحقق مكاسب سياسية، و أحيانًا يتحدث في الصحف عن إبعادهم إلى دول كإيطاليا وكندا، لكني شقيقي يرفض أن يتم إبعاده أو أن يتم ابتزاز الشعب الفلسطيني، ويفضل على ذلك أن يظل في مقابر الأحياء (سجون الاحتلال)".
"بنتمنى تنعاد صفقة وفاء الأحرار (التي حررت بموجبها المقاومة في غزة ما يزيد عن ألف أسير مقابل الإفراج عن الجندي الصهيوني جلعاد شاليط عام 2011)"، يعرب نديم عن أمله، مع تقديره لموقف السلطة التي يعتقد أنها بذلت "الجهود الكافية" في محاولة للإفراج عن أخيه.
ولا يزال قلب صبحية المجعد يبكي، هي تريد أن "يتواصل الضغط أكثر، ما يتراجعوش (السلطة)، لأنه إذا بصير ضغط واشي جدي بكون اشي منيح، الاحتلال ما بطلع الأسرى من السجون بسهولة"، "يا رب يفرجوا عن كل الأسرى، ونعمل حفلة كبيرة إلهم كلهم".

"ممنوع نضعف.."!
تختلف الأسماء، وتتشابه المعاناة، ويظل وجه الاحتلال القبيح واحدًا، الأسير ماهر يونس، لم يتزوج بعد، حقوقه منتهكة منذ 32 سنةً، حكمه الاحتلال بالإعدام، ثم بالسجن مدى الحياة، وخفضته لجنة صهيونية إلى أربعين سنةً، بتهمة قتل جندي صهيوني.
لماهر (55 سنةً) أخ وحيد هو نادر يكبره بعامين، وخمس شقيقات، أما والده فقد وافته المنية سنة 2003 دون أن يتمكن من رؤيته في اللحظات الأخيرة، ووالدته مسنة لا أحد يدري إن كانت ستفارق الدنيا بغتةً دون أن تراه، عمرها (80 عامًا).
لكن نادر "حاسم" تمامًا كعائلته بمن فيهم شقيقه الأسير، في موضوع الثوابت الوطنية الفلسطينية: "أول ما سمعنا عن الصفقة، وأخوي من ضمن الأسرى المنوي الإفراج عنه، كان اشي مفرح جدًا، لكن إذا تعلق الأمر بالثوابت، فاحنا بنفضل الثوابت على الإفراج عن الأسرى، في زي أخوي 5000 في سجون الاحتلال".
ظل الأمل قبل القرار الصهيوني الأخير بعدم الإفراج عن أسرى ما قبل أوسلو، يراود العائلة، ومع ذلك كان نادر يمهد الطريق في نفس الوقت ويهوّن على عائلته الكرب لئلا تنصدم، أمام احتمال تراجع الاحتلال وتلاعبه.
أما احتمال أن ترحل والدة الأسير ماهر إلى الآخرة دون أن تحتضنه بقلبها الدافئ، فيقابله نادر بكلمات: "هذا صار مع أبوه، واستقبل الخبر زي أي إنسان عنده أحاسيس، وقلب، القصة هونا (هنا) قصة صمود وثبات، ممنوع نضعف أو نيأس.. ممنوع".

(المصدر: صحيفة فلسطين، 5/4/2014)