Error loading files/news_images/الشامي.jpg مؤسسة مهجة القدس مؤسسة مهجة القدس
29 مارس 2024 م -
  • :
  • :
  • ص

Content on this page requires a newer version of Adobe Flash Player.

Get Adobe Flash player

    فلسفة الشهادة

    آخر تحديث: الإثنين، 12 مايو 2014 ، 03:12 ص

     

    فلسفة الشهادة
    الشيخ / عبد الله أحمد الشامي
    أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين

    مقدمة:
    سطّر الشهداء في تاريخ أمتنا الحديث والقديم، لوحات زاهية من الشرف والشجاعة والإقدام، صنعت لأمتنا تاريخا كبيرا من الانتصار ودحر قوى الظلم والضلال إن كانوا مشركين أو صليبيين أو مستعمرين، واليوم احتل الشهداء المكانة التي تليق بهم في ذاكرة أمتنا وأجيالنا اللاحقة، وما كان ذلك ليحدث لولا القيمة العليا للشهادة، التي غرستها عقيدتنا الإسلامية في نفوس أبنائها، بحيث أصبحت ثقافة عامة يفهمها الصغار قبل الكبار والعوام قبل العلماء، وأصبحت الشهادة هدفا عاليا يتسابق أبناء الأمة في الوصول إليها، لعلهم يفوزون بها أو يرتقون إلى مدارجها.
    ورغم وضوح معنى الشهادة ومعالمها، إلا أن هذا يحتم علينا الحديث عنها وكشف بعضا من جوانب فلسفتها، خصوصا ونحن نخوض صراعا شرسا مع العدو الصهيوني يشمل في جوانبه الأرض والإنسان والمعتَقَد، هذا العدو يحاول بما أوتي من قوة مادية، ومن سيطرة على وسائل الإعلام- حيث يهيمن على معظم الوسائل العالمية- وتؤثر كثيرا في تشكيل ثقافة وقناعات الكثير من الناس، حاول هذا العدو ولا زال أن يلقي بظلاله التشكيكية حول العمليات الاستشهادية، معتبرها لونا من ألوان الانتحار، يساعده في ذلك بعض أدعياء العلم من أمتنا والمأجورين منهم، والذين يتحركون لخدمة مشاريع سياسية هزيلة تروج للمحتل الغاصب وتقبل التعايش معه.
    ونحن في موضعنا هذا حرصنا على إبراز مكانة المجاهدين وفرضية الجهاد ومعنى الشهادة وفلسفتها، ومكانة الشهداء ودورهم في إحياء الأمة، نرجو أن نساهم في دحض بعض الأراجيف والضلالات التي يروج لها الاحتلال وأعوانه، وكذلك نساهم في دفع أبناء شعبنا للقيام بواجبهم الجهادي والاستشهادي ضد كل الأعداء، وإن تعددت أسماءهم وألوانهم.

    تمهيد:
    يقول سبحانه وتعالى - في مطلع سورة البقرة "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" (البقرة-2-3) من خلال التأمل في الآيات السابقة نجد أن الإيمان يقوم على قاعدتين أساسيتين هما:

    عالم الشهادة:
    وهو العالم المشهود الذي نحيى فيه، ونتقلب في أرجائه، ونستظل بسمائه ونعيش مع ظواهره الطبيعية ومع كائناته الحية "عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير"(الأنعام-73) هذا العالم لا يستطيع أحد أن ينكره لأنه ينكر وجوده وبالتالي لا يوجد حث على الإيمان به، والحث جاء على وجه الالزام بضرورة التفكر فيه {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} (آل عمران-190) والقاعدة الأساسية الثانية التي يقوم عليها الإيمان هي:

    عالم الغيب:
    والذي لا يتم الإيمان إلا به، ومن ينكره لا يعتبر مؤمناً، بل ليس مسلماً من الأساس، لأن الإسلام يقوم على قاعدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإيمان بالله سبحانه من أركان الإيمان بالغيب، كما جاء في الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام حين أجاب السائل عن الإيمان بقوله : "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره"هذا النص شمل أركان الإيمان بالغيب، لكن هناك قضايا إيمانية غيبية أخرى نحن مأمورون بالإيمان بها، ومن يكفر بها فقد كفر بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، لأنها أصبحت مما هو معلوم من الدين بالضرورة، مثل الإيمان بالجنة والنار وكذلك عالم الجن، ومن القضايا الإيمانية التي عالجها القرآن الكريم، قضية الموت، حيث حدثنا القرآن بأن كل ما على الأرض من كائنات بما فيها الإنسان تجري عليها سنه الموت، لقول الله سبحانه وتعالى: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (الرحمن-26).
    وأن الموت مقدر للإنسان يأتيه في الأجل المحدد الذي لا يعلمه إلا الله، {وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله كتاباً مؤجلا} (آل عمران-145) ولِسُنَّة الموت يخضع الإنسان وهو يشترك فيها مع باقي الكائنات ولا يتميز عنها في شيء، حيث لا يستطيع هو أن يقدم الموت ساعة أو يأخره، وكذلك الكائنات الأخرى{لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف - 34) وهذه الحقيقة الإيمانية (المتعلقة بأجلية الموت وغيبيته)، تُعلِّم الإنسان الشجاعة وتقضي على مظاهر الضعف والخوف وتدفعه إلى الإقدام، لأنه يعلم أن الأمة لو اجتمعت لن تستطيع أن تقدم من عمره أو تأخره شيئاً، فلم الخوف من انقضاء العمر إذاً؟ ولم الجبن عن التصدي للباطل؟ ولم التقاعس عن مقاومة الطغاة والبغاة؟

    مشروعية الجهاد:
    فرض الله سبحانه الجهاد على أمة الإسلام حتى يقوموا بواجبهم الديني في نشر الإسلام، وإزالة النظم الطاغوتية، التي تحول بين الناس وبين حرية الاعتقاد، لأن هذه النظم تعمل للمحافظة على وجودها وعلى مصالحها الذاتية، سواءً كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وبالتالي لن تسمح للمسلمين بحرية الدعوة والحركة، وإنما ستضع في طريقهم العقبات، وستحفر لهم الأخاديد وستعمل على إرهاب الناس وتمنعهم من الالتحاق بمركب الدين الجديد، الذي فيه الحرية الحقيقية والخلاص من كل أشكال العبودية.
    ولمواجهة الأنظمة الطاغوتية وشبكة المصالح هذه، فرض الله سبحانه على المسلمين الجهاد ورغبهم فيه، وحثهم على وجه الالتزام الجماعي بمقاتلة الكفار والمشركين بقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة -29 )، لأن الله بعلمه المطلق يعلم أن العمل السياسي والدبلوماسي "الدعوي" لا يمكن أن يزيل هذه النظم، ولا يمكن أن يؤدي إلى تغير المجتمعات بكاملها نحو الإسلام، وأن الإسلام إن لم يكن له شوكة وقوة تردع البُغاة والجبابرة، فلن تنكسر إرادتهم، ولن تتحطم مؤامراتهم ومكائدهم. وبناءً عليه فإن هناك منهجين متصارعين: منهج الله ومنهج الطاغوت {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفا}.
    ومن ناحية ثانية فإن ديار الإسلام ستبقى عُرضة للاعتداء من قِبل الخصوم والأعداء والمتربصين والمرجفين، وإن هؤلاء الأعداء يحتاجون إلى قوة تردعهم وتحطم قوتهم حتى تتمكن ديار الإسلام من العيش في أمن وسلام، يمارس أبناؤها شعائرهم وعباداتهم بحريه كاملة، ولذلك كان الجهاد في سبيل الله في إحدى جوانبه يعني الدفاع عن النفس وعن الأرض وعن العرض {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}، كما أن الله سبحانه شرع الجهاد لحماية الضعفاء والفقراء في الأرض، الذين يتعرضون للقهر والتسلط والابتزاز والاستخفاف {ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} (النساء - 75).
    وكذلك شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد دفاعا عن المقدسات والمساجد ودور العبادة {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} (الحج/40).
    والجهاد فيه ردع للخارجين على المجتمع الإسلامي، والمحاربين له {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (المائدة - 33).
    وفي الجهاد في سبيل الله إحقاق للحق وإبطال للباطل، حيث يُفهم أن الحق "الذي يمثله شرع الله ومنهجه" في صراع مع الباطل، وأن الحق لا يُحق، وأن انتفاش الباطل لا يُرد إلا من خلال القوة المُطالب الحق بامتلاكها -كما قال الله سبحانه {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ...} ( الأنفال-60 ) فإذن الحق مطالب بامتلاك القوة حتى يرهب الباطل وأعوان الباطل القريبين والبعيدين- {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} (الأنفال -7-8 ). وإحقاق الحق وإبطال الباطل لا يكون إلا بالمواجهة بين معسكر الحق ومعسكر الباطل {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} (الأنفال -7 ). ونحن في هذا الحديث لم نتطرق إلى مراحل فرضية الجهاد، لأن الذي يعنينا هنا توضيح الغاية من فرضيته، وما أعد الله سبحانه المجاهدين من الأجر.

    فرضية الجهاد:
    شرّع الله سبحانه الجهاد، لأنه يدرأ المفاسد، وبه تصان الحقوق وتحمى المعتقدات والديار، والتي تشكل قاعدة أساسية لحرية العبادة، إذ في ظل الديار المحتلة أو في الديار التي يدين أهلها بغير الإسلام، نجد أن واقع المسلمين صعب، وأنهم لا يستطيعون أن يؤدوا عباداتهم بحرية، وإن أدوها فتحت الضغوط والتهديدات، كما شاهدنا ذلك واضحاً ضد أهلنا في بيت المقدس طوال فترة الاحتلال وحتى الآن، حيث يتدخل جنود الاحتلال في تحديد - من يسمح له بالدخول إلى الصلاة في المسجد الأقصى ومن لا يسمح له بذلك - ونجدهم بأنهم قد اغتصبوا مسجد خليل الرحمن في مدينة الخليل، هذا الاغتصاب وهذا المنع يحتاج إلى مدافعة وجهاد من قبل المجاهدين، حتى يتم تحرير هذه البلاد وهذه الأماكن المقدسة، ليتمكن المسلمون من أداء شعائرهم وعباداتهم بحرية تامة {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره} (الحج - 40)، إذاً بغير قانون التدافع لا يمكن أن يرتدع الباطل، ولا يمكن أن تخض شوكته، من أجل ذلك حث الله المسلمين على الجهاد وعلى اقتحام ساحات الموت لعلهم يسقطون شهداء فيرتفعون إلى الأعالي ويدخلوا الفردوس الأعلى من الجنان. والذي يتقاعس عن الجهاد ولا ينويه، يموت ميتةً جاهلية كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : " من لم يغزُ ولم تحدثه نفسه بالغزو مات ميته جاهلية " وفي رواية أخرى "مات على شُعبة من النفاق"، من أجل ذلك وجدنا أن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام يتسابقون على الجهاد، ويستهمون (يقترعون) مع أبنائهم للخروج إلى القتال: كما حدث مع الصحابي الجليل "خيثمة" حيث قال مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت والله عليها حريصاً، حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمارها وأنهارها، يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا. وقد- والله يا رسول الله - أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله، أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام فقُتل بأُحدٍ شهيداً"، واجتهد علماؤنا الأفاضل في تحديد مكانة الجهاد في التشريع الإسلامي، فقالوا: أن حكم الجهاد في الشرع هو بمثابة فرض الكفاية، إذا قام به مجموعة من الناس سقط عن الآخرين، وينتقل من فرضية الكفاية إلي فرضية العين بشروط ثلاث:

    1 - إذا نزل العدو بأرض قوم أصبح الجهاد واجباً عليهم.
    2 - إذا استنفر الإمام جماعة بعينهم من الناس، فيصبح الجهاد عليهم واجباً.
    3 - إذا حضر المجاهدون أرض المعركة لقول الله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار}.
    ووفقا لهذه الشروط، نجد أن الجهاد على أهل فلسطين هو بمثابة فرض عين، واجب على الجميع القيام به، ومن لم يقم بواجبه الجهادي فهو آثم، ووفقا لهذا الحكم يصبح من حق المرأة أن تخرج بدون إذن الزوج، وعلى الابن أن يخرج بدون إذن والديه.

    الجهاد على أرض فلسطين:
    وهذه القضايا كلها مجتمعه على أرض فلسطين، فشرع الله غائب، وأرض المسلمين مغتصبه، حيث حضر فيها الأعداء يمارسون الفساد والإفساد، يقتلون العباد ويسلبون أموالهم ويهددون الأهل بالقتل والتهجير، إذاً القتال على أرضها ضد الأعداء هو واجب شرعي مدعم بكل الأدلة القرآنية والنبوية مثل قول الله سبحانه وتعالى: {أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير} (الحج-39) ونحن قوتلنا ونحن مظلومون، "الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله "(الحج-39) ونحن أخرجنا من ديارنا بغير حق ... ويدعم ذلك قول رسول الله عليه الصلاة والسلام حيث جاءه رجل يسأله يا رسول الله: أرأيت لو أن رجلاً أراد أن يأخذ مالي؟ قال لا تعطه مالك. قال أرأيت لو قاتلني؟ قال: "فقاتله" قال أرأيت لو قتلني؟ قال: (فأنت في الجنة ) قال أرأيت لو قتلته. قال "هو في النار". إذاً من أجل الدفاع عن النفس وعن المعتقد، وعن الأرض والعرض، وعن المستضعفين في الأرض، ومن أجل دفع مغتصبي حق الله وسلطانه في الأرض، ومن أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه فيها شرّع سبحانه "الجهاد" وجعله رسول الله عليه الصلاة والسلام ذروة سنام الإسلام، وجعل الله سبحانه أجر المجاهدين أعظم من أن يوصف، حيث روى عن أبو هريرة قال: أن رجلاً قال: يا رسول الله علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال: "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟! فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك. فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " فـوالذي نفسي بيده لو طوِّقت ذلك ما بلغت أجر المجاهدين في سبيل الله". وأن أجر المجاهدين في سبيل الله أعظم من صلاة سبعين عاماً، وكما جاء في حديث الإمام الترمذي. أن رجلاً مالت نفسه إلى العزلة، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام عنها فقال: "لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله". "من قاتل فواق ناقه وجبت له الجنة". وكذلك أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام : أن المجاهدين هم خير الناس كما روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الناس... رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله". وحين سُئل النبي عليه الصلاة والسلام: أي الناس أفضل؟ قال: " مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله" والجهاد في سبيل الله ليس نزهه وليس يافطة ترفع أو شعاراً يستظل به، بل هو أبعد من ذلك بكثير، هو مجاهد ة للنفس ولرغباتها وشهواتها وارتباطاتها بالأرض وهو مكروه على النفس لأن فيه هلكة لها وللمال وللولد، وكما أخبر رب العزة بقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وانتم لا تعلمون} (البقرة - 216)، وكما أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام أن الشيطان يأتي للإنسان وقت الزحف يذكره بأهله وولده، يثبط من عزيمته ويهون من أمره.

    متى يكون الجهاد في سبيل الله؟
    أراد الله سبحانه من جميع عُبّاده، أن يعبدوه لذاته ولا يشركوا معه أحدا من خلقه أو ممن يتصورون بتصوراتهم الخاطئة أنهم آلهة يُعبدون من دون الله، أو يتوهمون نتيجة لجهلهم أنهم أنداد لله، ولذلك وجدنا كل التشريعات القرآنية والنصوص العقائدية تنزه الله سبحانه عن الشرك، بدئاً من قوله سبحانه {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد"، ومرورا بدحض ادعاءات اليهود والنصارى حين زعموا {وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} (التوبة-30)، وتفنيدا لادعاءات المشركين بقوله : {أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم، هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون} (الأنبياء - 24)، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى أعظم قاعدة لدخول الإسلام "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، ووفقا للأحاديث الواردة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتي تحث المسلمين على إخلاص أعمالهم ونياتهم لله وحده، كما جاء في الحديث القدسي الذي يرويه الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه قائلا: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل ع ملا أشرك فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم.
    وعن أبي سعيد بن أبي فضالة (وكان من الصحابة رضي الله عنهم) قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى منادٍ : من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" رواه ابن ماجة.
    ووفقا لهذه المقدمة وبما أن الجهاد عبادة يتقرب بها العبد من الله سبحانه، فيجب أن يكون الجهاد في سبيل الله خالصا من الحظوظ الذاتية أو المكاسب المادية، التي قد يبتغيها المجاهد من وراء جهاده، فالمجاهد أحيانا يحب أن يُرى بين الناس، أو أن يُشار إليه بالبنان بأنه مجاهد، وقد يبتغي منصبا أو مكانة من وراء مشاركته الجهادية، وهذا كله يحبط العمل ويضيع الأجر، ودليلنا في ذلك سؤال الرجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام حين قال : يا رسول الله إنني أقاتل في سبيل الله وأحب أن تُرى مكانتي بين الناس، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". ويعزز ذلك حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه، رجل استُشهد فأُتي به فعرّفه نِعَمَة فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار...".
    وبناءً عليه يجب على المجاهد في سبيل الله أن يروض نفسه ترويضا شاقا ويحاسبها حسابا عسيرا، حتى تتجرد من كل العوالق الذاتية والمادية، وتحتسب كل فعل تقوم به صغيرا أو كبيرا في سبيل الله، حتى تنال عليه الأجر كاملا، ولا تشرك فيه مع الله شيئا. وإمامنا في ذلك موقف الإمام علي رضي الله عنه، حين تمكن من أحد المشركين فهمّ بقتله، فإذا بالمشرك يبصق في وجهه، فيتركه ويعود، وحين سُئل لماذا لم تقتله؟ قال خشيت أن أقتله انتقاما لذاتي، فيكون في ذلك شرك مع الله...".

    وبهذا الخصوص نشير إلى أن علماءنا الأفاضل قسّموا الشهداء إلى ثلاث فئات:
    الأول: شهيد الدنيا والآخرة: وهو الذي يُقتل مجاهدا في سبيل الله، مخلصا في نيته، وكما وصفه رسول الله عليه الصلاة والسلام بـصابر محتسب مقبل غير مدبر فهو عند الله شهيد وعند الناس شهيد.
    الثاني: شهيد الآخرة: وهو الذي ينطبق عليه حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام حين سأل أصحابه: "ما تعدّون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، قال إن شهداء أمتي إذن لقليل، قالوا فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات من الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد. قال ابن المقسم أشهد على أبيك أنه قال: والغريق شهيد"، إذن الذي يموت في سبيل الله في طلب العلم أو في الغربة فهو شهيد، ومن مات بالطاعون أو بمرض في بطنه أو غريقا أو في حريق ... الخ فهو شهيد، وهذا يعتبر عند الله شهيدا ولكن في مرتبة أدنى من مرتبة الشهداء الذين يسقطون على أرض المعركة، لكن هؤلاء في حس الناس ووجدانهم الدنيوي ليسوا بشهداء، أو لا يتعاملون معهم كشهداء المعارك والمقاومة. أي أنهم يُغسلون ويُكفنون ويُصلى عليهم.
    الثالث: شهيد الدنيا: وهو الذي يحسبه الناس شهيدا، لأنه سقط في المعركة، ولكنه كان يقاتل حمية أو شجاعة أو من قاعد فكرية غير قاعدة الإسلام، مثل الأفكار العلمانية أو الماركسية، إن كان معتقدا بها ويقاتل تحت مظلتها فيُقتل فيصبح بذلك شهيد دنيا، ولا شيء له في الآخرة لأنه ينطبق عليه الحديث القدسي : "أنا أغنى الشركاء عن الشرك .... ".
    وجاء في الحديث الذي يرويه النسائي في سننه عن العرباض بن ساريه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا، في الذين يُتوفون من الطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون على فرشهم إخواننا ماتوا كما متنا، فيقول ربنا انظروا إلى جراحهم فإن أشبه جراحهم جراح المقتولين، فإنهم منهم ومعهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم ... ".
    والمقصود من الحديث أن الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يرجون من الله تعالى أن يكون الذين يُتوفون من الطاعون مثل الشهداء في نيل الثواب العظيم، الذي أعده الله للشهداء، ويقولون: ربنا إخواننا هؤلاء قُتلوا كما قتلنا في سبيلك، لأنهم صبروا على قضاء الله حتى ماتوا بالطاعون، الذي هو من تقدير الله، كما صبر الشهداء في الحرب وثبتوا، لذلك هم يرجون لهم أجر الشهداء. ويقول الذين ماتوا على فرشهم بالطاعون: إخواننا ماتوا مثلما متنا، أي على فرشهم، فكيف يُعطَون أجر الشهداء الذين باعوا أنفسهم لله، وقتلوا في سبيل الله؟ فيقول الله تعالي لهم جميعا: انظروا الي جراحهم التي مستهم من الطاعون، فإن أشبهت جراحهم جراح الشهداء فإنهم الشهداء مع الشهداء، فينظرون إلى جراحهم فإذا هي مثل جراح الشهداء، ويُسمى هؤلاء -كما سبق القول- شهداء الآخرة فقط، فلا يجري عليهم حكم الشهيد في المعركة في ترك غُسله والصلاة عليه.
    وإننا نرجو لإخواننا المجاهدين أن تكون نيتهم وعزيمتهم متوجهة لله وحده، أملا في نيل شهادة الدنيا والآخرة، لينالوا الأجور كاملة من الله، ومن ثم من العباد في الدنيا بالتمجيد وطيب الذكر.

    حوافز المجاهدين:
    ولا يستطيع الإنسان أن يتغلب على المثبطات الذاتية والشيطانية -المتمثلة في حب البقاء، وحب المال والولد، وحب الضياع والممتلكات، وحب النساء {زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا} (آل عمران - 14)، أما المثبطات الشيطانية فتتمثل في تخويف الشيطان للمجاهدين، وتذكيرهم وقت الزحف بأموالهم وأولا دهم وزوجاتهم وأنها ستُنكح من بعدهم ... الخ - ولا يتخلص الإنسان من هذه المثبطات إلا إذا كان ممتلئاً بالإيمان وإلا إذا كانت الحوافز التي ينتظرها أكبر بكثير من المثبطات، وان أكبر الحوافز التي أعدها الله للمجاهدين هي الجنة ودرجاتها العليا والتي قال عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام : "إن الله أعد لعبادة في الجنة ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر" وقال الله عنها مخاطباً نبيه: {وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى-5).
    ولما مر رسول الله عليه الصلاة والسلام على آل ياسر (ياسر وزوجته وولده عمار ) رضي الله عنهم وهم يُعَذبون، لم يزد على قوله : "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة" ولما بايع النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين في بيعة العقبة الثانية على الإسلام وعلى أن يدافعوا عنه ويحموه مما يدافعون به عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم، قالوا له: وما لنا إن فعلنا ذلك؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام -كلمة واحدة- "الجنة". قالوا ربح البيع ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل". ورفض الله سبحانه وتعالى أن يساوي بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بالمؤمنين المجاهدين بقولة: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجةً عند الله وأولئك هم الفائزون} (التوبة-19-20)
    فالعبادة حتى ولو كانت في بيت الله الحرام لا تصل إلى أجر المجاهد في سبيل الله، ونستشهد بقول المجاهد عبد الله بن المبارك للعابد الفضيل بن عياض:
    يا عابد الحرمين لو أبصرتـنا      لعلمت أنك في العبادة تلعــب
    من كان يخضب خده بدموعه      فنحورنا بدمائنا تتخضـــب
    أو كان يتعب خيله في بـاطلٍ      فخيولنا يوم الصبيحة تتعــبُ
    ريح العبير لكم ونحن عبيرنـا      وهج السنابك والغبار الأطيـب
    ولقد أتـانا من مقـال نبينـا      قول صحيح صادق لا يكذـب
    لا يـستوي غبار أهل الله في      أنف امرئ ودخان نار لا يكذبُ
    هذا كتاب الله يـنطق بــيننا      ليس الشهيد بميت لا يــكذبُ
    ولعلنا نجد من ضمن الحوافر التي تحث المسلمين على الجهاد، ما جاء يسأل عنه أحد الرجال رسول الله عليه الصلاة والسلام قائلا: ما الذي يُضحك الرب من العبد؟ قال: "أن يغمس يده في العدو حاسرا". أي يقاتل في سبيل الله بلا در وبلا ترس.

    معنى الشهادة:
    ومن بين القضايا الإيمانية العظيمة المرتبطة بالموت والمتميزة عنه بالحياة، هي "قضية الشهادة". وهي تعني "القتل في سبيل الله"، وهي تعني كذلك أن يقتحم المؤمن ساحات الموت من أجل رفعه دين الله، أو من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، وكلمة التوحيد هي المنهج الإسلامي، والذي يعني في جوهرة مقاومة للظلم والطغيان والبغي والإفساد في الأرض {اذهب إلى فرعون إنه طغى}، {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم}، {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}. وكذلك القتال من أجل إنقاذ المستضعفين في الأرض في ظل التشريع الإلهي فهو في سبيل الله {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} (النساء-75)، وكذلك هي حكم الله في الأرض وتطبيق شريعته، فالقتال في سبيل ذلك هو قتال في سبيل الله {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} (النساء-65)، وكذلك رد العدوان عن أرض المسلمين إذا ما تعرضت للغزو فهو في سبيل الله، والدفاع عن النفس والمال والعرض فهو في سبيل الله كما جاء في الحديث عن سعيد بن زيد، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد" رواه أحمد والترمذي.

    قيمة الشهادة ومكانة الشهداء:
    لا يوجد دين على الإطلاق مجدَّ الشهادة والشهداء كما مجدها الإسلام، بل لا نكاد نجد ديناً أو أية نظرية أيديولوجية تدفع أبناءها للشهادة ولبذل الدم والنفس والمال في سبيل الأهداف السامية والأخلاق النبيلة كما شرعها الله سبحانه وتعالى، وحث عليها بجد أصحابها، ومصطفياً لهم من بين خلقه، حيث خاطبنا القرآن الكريم في سورة آل عمران بقوله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} ( 169-171)، وكذلك قول الله سبحانه في سورة البقرة ناهياً المسلمين عن مجرد القول عن الشهداء بأنهم أموات إنهم لم يموتوا بل هم أحياء، بل هم لا زالوا في الحياة يتفاعلون فيها يؤثرون ويتأثرون {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} (البقرة-154)، والله سبحانه وتعالى كما أخبر: بأنه هو الذي يختار الشهداء من بين خلقه ويصطفيهم، رغم حرص العديد إن لم يكن جميع المسلمين على طلب الشهادة، فهو الذي ينتخب الشهداء من بينهم، كما قال سبحانه في سورة آل عمران {إن يمسسكم قرح فقد مسَّ القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} (آل عمران-140)، فهذه الآية تفيد بأن الله سبحانه يتخذ من المؤمنين شهداء على قدر طهرهم وعلى قدر صدقهم وإخلاصهم، وليس كل من طلب الشهادة نالها، وليس كل من ورد موارد الشهداء قضى شهيدا، فها نحن نرى القائد الفذ خالد بن الوليد يروي عن نفسه: "لقد خضت مئة معركة أو يزيد، وما بجسدي موضع شبر إلا وبه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"، وللقائد خالد بن الوليد أجر الشهداء بإذن الله وإن مات على فراشه، كيف لا؟ وهو سيف الله المسلول.
    وفي هذا الدرس العظيم: أنه ليس كل من طلب الشهادة نالها وليس كل من دخل غمار المعارك ونيته أن يُقتل شهيدا، يتحصل على الشهادة، فإن الله سبحانه هو الذي يجتبي الشهداء ويختارهم باصطفاء {ويتخذ منكم شهداء}ØŒ لقد كان في زمان النبي عليه الصلاة والسلام ويوم حصاره لخيبر أن خرج أحد رعاة الغنم، وأعلن إسلامه وقاتل مع المسلمين حتى قُتل، فعقب النبي عليه الصلاة والسلام بأنه قتل شهيدا، ولم يصل لله ركعة واحدة، فهذا يدلل على اصطفاء الله للشهداء. وهذا يحتم علينا أن ندخل غمار الموت وساحات الوغى لعلنا نصل للغاية العظمى، أن نصل إلى مرتبة الشهداء، وهذا بحد ذاته يقضي على كل مظاهر الخوف والتردد والجبن، لأن الجبن لا يطيل الأعمار، كما أن اقتحام ساحات الموت لا تقصر الآجال {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا…} (آل عمران-145)ØŒ فالله سبحانه حين فرض على المسلمين قتال الأعداء، عالم بأن في القتال قتل سواء في المسلمين أو في أعدائهم، بل حث المسلمين على القتال في سبيله معتبراً إياه تجارة مع الله سبحانه، حيث قال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقاً في التوراة والإ نجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به..} (التوبة-111)ØŒ إذاً هناك قتل متبادل في صفوف المشركين والأعداء وفي صفوف المؤمنين، ولكن القتل ليس سواسية، أو أن المصير للطرفين متفاوت ففريق في النار وفريق في الجنة، هذا ما طالب به رسول الله عليه الصلاة والسلام المسلمين بالرد على أبي سفيان يوم أُحد حيث علا صوت أبو سفيان قائلاً: يوم بيوم بدر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ردوا عليه.. ليسوا سواءً قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار" وكذلك هذا ما حرص رسول الله عليه الصلاة والسلام على تعليمه للأمة حاثاً إياهم على الخروج مجاهدين في سبيل الله، في الحديث الذي رواه الأمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : "تضمن الله لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي وإيماناً بي وتصديقاً برسولي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أُرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون الدم، وريحه مسك، والذي نفس محمدٍ بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سَعةً فأحملهم ولا يجدون سعةً، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمدٍ بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فاقتل ثم أغزو فاقتل ثم أغزو فاقتل".
    أرأيتم يا فتية!! الإسلام هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقسم بربه عن رغبته بالقتال في سبيل الله وعدم رغبته في القعود خلف كل سريه متمنياً أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا ثم يقتل ثلاث مرات لما للشهيد من أجر عند الله سبحانه وتعالى ولما له من كرامة، ولكن ما منعه عن القيام بذلك إلا شفقة ورحمةً بالمسلمين، حيث لا يستطيع أن يوفر لهم وسائل النقل والتجهيز للقتال، وكذلك هم قد لا يجدون ذلك، فيشق عليهم أن يتخلفوا عن رسول الله .
    أسمعتم يا فتيه الإسلام ورجاله!!! حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه الذي يرويه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي قال : " ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أنها ترجع إلى الدنيا ولا أن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل في الدنيا لما يرى من فضل الشهادة" صحيح مسلم. وهذا هو الشهيد عبد الله بن حرام أبا جابر والذي استشهد في معركة أحد وترك ولده وبناته خلفه، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم ولده جابر مهموماً فقال: "يا جابر مالي أراك مهموماً " قال: قلت يا رسول الله: "استشهد أبي وترك ديناً وعيالاً، قال: فقال "ألا أخبرك.. ما كلَّم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلَّم أباك كفاحاً، قال: "سلني أعطك، فقال أسألك أن أُرد إلى الدنيا فاقتل فيك ثانيةً، فقال الرب عز وجل "إنه سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون". فقال إي رب فأبلغ من ورائي. فأنزل الله سبحانه وتعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً....}.
    من خلال سيرة أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام نجد أنهم كانوا ينتظرون الموت على شوق، كما قال قائلهم حين حضرته الوفاة " مرحباً بالموت حبيب جاء على فاقة" وقال آخر لبنته التي كانت تقول وا كرباه -وقت احتضاره- فقال لها: بل قولي وا طرباه.. غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبة " وكانوا يشتاقون إلى الموت الذي كان سيجمعهم بأحبائهم وهل هناك أحب من الله ومن رسوله، ولكن عبد الله بن حرام أبا جابر، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا ليقاتل في سبيل الله من جديد حباً في الله وفي رسوله وطمعاً في مزيد من الأجر الذي وجده في الجنة.
    والإمام الشهيد سيد قطب حين يعلق على الآية الكريمة {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ...} (آل عمران-169)، نجده يقول في ظلاله ج1/ص143، "أن هناك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق. شهداء في سبيل الله. قتلى أعزاء أحياء، قتلى أزكياء أحباء - فالذين يخرجون في سبيل الله والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يُقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً، إنهم أحياء، فلا يجوز أن يقال عنهم "أموات" ولا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس والشعور، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان، بل إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه، فهم لابد أحياء. إنهم قتلوا في ظاهر الأمر، حسبما ترى العين، ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرية السطحية الظاهرة... إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد. وسمة الموت هي السلبية والخمود والانقطاع "وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعليه مؤثرة، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد، فهم ما يزالون عنصراً فعالاً دافعاً في تكييف الحياة وتوج يهها، وهذه هي صفة الحياة الأولى فهم أحياء أولاً بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس. ثم هم أحياء عند ربهم إما بهذا الاعتبار أو باعتبار آخر، لا ندري نحن كنهه، وحسبنا إخبار الله تعالى به "أحياء ولكن لا تشعرون " لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود ولكنهم أحياء".
    وقد ورد في صحيح الأمام مسلم : عن "عبد الله بن مسره" عن مسروق قال: سألت عبد الله عن هذه الآية (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون " (آل عمران-169)، قال : أما أنا قد سألنا عن ذلك فقال : أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث تشاء ثم تأوي إلى القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة، فقال : هل تشتهون شيئاً؟ قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث نشاء ؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا، قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجه تركوا".
    إذن هم أحياء يسرحون في الجنة حيث شاءوا "يرزقون" وهل الرزق إلا للأحياء ؟ ولكن كيفية الرزق وماهية الرزق نحن لا ندريها، لأنها من عالم الغيب المأمورين بالإيمان به ونحن في عالم الشهادة المأمورين بالسعي فيه لطلب الرزق والتفكر فيه لطلب القرب من الله. ورغم أنهم قُتلوا، إلا أن الله سبحانه استخدم ألفاظا تُدلل على أفعال، هي من خصائص الأحياء، مثل قوله {... فرحين بما آتاهم الله من فضله... }، والفرح سِمة من سمات الأحياء. و {... ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم...}، أملا ويقينا بفوزهم طالما هم في دائرة الإسلام، {... ويستبشرون بنعمة من الله وفضل...}، فالإنسان يفرح للرزق، ويفرح للنعمة الآتية إليه من ربه، ويفرح للفضل والزيادة في النعيم، والله أعلم أن المقصود هنا بالفضل، النظر لوجه الله الكريم في الجنة، وهذه كلها سمات من سمات الأحياء.
    وهم أحياء عند ذويهم، بحيث لا ينساهم أهلهم ولا ذويهم ولا أمتهم ويستشهدون بهم في كثير من المناسبات، ويفتخرون ببطولتهم، ويعاهدونهم على مواصلة الدرب، بينما الأموات الذين يموتون على جنوبهم وفي بيوتهم، في الغالب يُنسون، إن لم يكن لهم علم نافع تركوه خلفهم يحيي ذكراهم، أو تاريخ ناصع يؤثر في مجريات الأحداث فلن يُذكروا فيما بعد. فهذا جانب من جوانب الحياة، ونحن نرى الشهداء كيف يؤثرون في الواقع الاجتماعي والسياسي للأمة، فسقوط كوكبة من شهداء انتفاضة الأقصى على أرض فلسطين أحيا أمة بأسرها، حيث هبت من أقصاها إلى أقصاها، تهتف للشهداء وتهدف للقدس وتهتف لفلسطين.
    إن دماء الشهداء أحيت أمة من الموات، وإن دماء الشهداء صنعت انتصارات مجيدة ضد الأعداء من الصهاينة وحلفائهم سواءً في لبنان أو في فلسطين، والشهداء أحياء كما يقول الشهيد سيد قطب في ظلاله "ج1 - ص 142" "أحياء فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء، أحياء يشار كون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء، أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم، ولا يتعاظمها الأمر، ولا يهونها عظم الفداء، ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله، مأجورون أكرم الأجر وأوفاه".
    وكثيرا ما تعرض الدكتور الشهيد - فتحي الشقاقي للحديث عن الشهادة والشهداء في معرض تأبين الشهداء، وهنا نقتطف بعض العبارات ذات الدلالات المهمة لحياة الشهداء وفاعليتهم حيث يقول: "الشهادة هي المعادل الموضوعي للحياة، ونحن أمة لا تاريخ لها خارج الدم، وخارج مسيرة الشهادة ..." ويواصل قوله " الشهادة هي المعادل الموضوعي للحياة، والشهداء هم عنوان الحياة، لأنهم لا يموتون بل ينزرعون في الأرض يورقون ويزهرون، وتخضر بهم حياتنا"، ويواصل قائلا :"دمهم شريان الحياة كشجرة المقاومة شجرة الحرية". وفي موضوع آخر يتحدث الشهيد الشقاقي عن الشهادة ودورها قائلا: "في مهرجان الشهادة يلتقي المجاهدون ليؤكدوا أن الشهيد لا يذهب إلى الموت بل يذهب إلى الاشتباك المستمر، لا ينهي الانفجار أو الرصاصة دوره في المقاومة، كل ما يحدث أن الروح القلقة الخوافة تتحرر من القلق والخوف، وتبدأ في نقر الأرواح الميتة النائمة والمتقاعسة، لتوقظها وتحررها وتطلقها لتصطف في المعركة". ويقول في أحد مواطن حديثه عن الشهادة والشهداء: "الشهداء لا يموتون إنهم أحياء، يهبون لأمتهم مزيدا من الحياة والقوة، قد يلغي القتل أجسادهم الظاهرة، ولكنه يستحضر معنى وجودهم مكثفا خالصا من نوازع الجسد وثقله، ومتحررا من قيوده، ويطلق أرواحهم خفاقة حية مؤثرة بحجم المعاني التي قُتلوا لأجلها وهم يدافعون عنها". (الأعمال الكاملة - للدكتور الشهيد / فتحي الشقاقي- الجزء الثاني - الكلمات والخطب)
    هذه بعض من جوانب فلسفة الشهادة التي تميزت بها رسالة الإسلام، بل تبدأ مسيرة حياة جديدة نحن لا نعرفها ولا نعرف تفاصيلها إلا في إطار ما أخبر الله سبحانه وما حدّث عنه نبيه عليه الصلاة والسلام، وفي دلالات أثر الشهداء في واقع الأمة وحياة الأفراد، من حيث احتلالهم لمساحات الاقتداء، وتحولهم إلى نماذج خالدة راقية ساطعة في سماء الأمة، مطهرين من كل عيب مبرئين من كل شائبة، تصبح أسمائهم محل إجماع، وتعمل دمائهم فعل السحر في توحيد المختلفين ولم شملهم، حيث يختلفون على أشياء كثيرة، ولكنهم يتوحدون عند دم الشهداء وفي حفلات تأبينهم، حيث تتحول بيوت المواساة والتعزية إلى أماكن فرح يتجمع فيها المهنئون يشارك فيها جميع شرائح المجتمع، وكل التوجهات، في حين تقتصر مواساة الأموات على أقربائهم وجيرانهم وأصدقائهم، أما الشهداء فإنه يسعى لمشاركتهم كافة أفراد المجتمع، وتسعى في جنائزهم وخلفها جموع الأمة، وما شهده الشارع الفلسطيني ولا يزال يشهده من تشييع مواكب الشهداء بمظاهر احتفالية عظيمة، إنما تكشف جانبا من حياة الشهداء ومن فاعليتهم حتى بعد قتلهم.
    أياً من الأديان والشرائع يمتلك رؤيا تأثيرية وفاعلة لدم الشهداء، كهذه التي سطرتها شريعتنا السمحة الغراء؟؟؟؟
    أيا من النظريات الفلسفية المادية التي لا تؤمن إلا بالواقع المحسوس تستطيع أن تصنع جيلا بل أجيالا تحب الشهادة كما يحبون هم الموت؟؟؟؟؟
    إن الذي يؤمن بالواقع المحسوس ولا يؤمن بحياة خلفه لا يمكن أن يندفع خارج حدوده، بل سيستغرق كل جهده للاستزادة من متاعه والنهم من ملاذّه، أما الانسان الرسالي المؤمن بقيم الإسلام وبحياة الشهادة وخلود الشهداء وفاعليتهم وتأثيرهم في الحياة، وتأثرهم بها فإنه يدوس عليها بقدمه ويندفع طالبا الشهادة، كما حدث مع أحد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام عُمير بن الحمام رضي الله عنه حين التقى جمع المسلمين بالمشركين في بدر، وحث رسول الله عليه الصلاة والسلام المسلمين بالثبات والصبر في ملاقاة الأعداء قائلا: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض"، قال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال : نعم، قال عمير : بَخٍ بَخٍ، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يحملك على قول بخ بخ. قال : لا والله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فقال : "إنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال : لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، قال : فرمى ما كان معه من التمرات، ثم قاتلهم حتى قُتل". صحيح مسلم.
    أي فلسفة تستطيع أن تدفع بالناس إلى ساحة الموت إلى درجة الاقتحام طلبا للقتل؟ -غير الإسلام- كما روى الإمام مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال : "سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول : قال رسول الله عليه الصلاة والسلام "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف، فقام رجل رث الهيئة فقال : يا أبا موسى أ أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال : نعم، فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام ثم كسر جفن سيفه (غمده) فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قُتل"، أي فلسفة تستطيع أن تقضي على التعلق بالدنيا ومغانمها طمعاً في الآخرة وما أعد الله فيها؟ كما حدث مع ذاك الصحابي، الذي أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام نصيبه من الغنائم كباقي المسلمين، إلا أنه أبى أن يأخذها قائلا ما على هذا بايعتك، إنما بايعتك على أن أضرب بسهم فيما ها هنا - مشيرا إلى نحره - فأفوز فأدخل الجنة. ودارت المعركة ووُجد هذا الصحابي مقتولا بسهم حيث أشار، وعُرض على رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : أهو هو؟ فقال نعم، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : "صدق الله فصدقه الله، وأنا على ذلك من الشاهدين".
    أي ثقافة وأي معتقدات تلك التي تدفع صاحبها وهو يرى الموت يحدق به، والمغريات تهتف به على أن ينجو من الموت ويحتل المناصب العليا !!! كما حدث مع الشهيد عز الدين القسام، فيأبى ويخاطب إخوانه قائلا : "موتوا شهداء". وكما حدث مع الشهيد سيد قطب، وهو تحت حبل المشنقة، مُؤثرا الشهادة على المنصب الرفيع.
    وما الذي دفع الشهيد أنور سكر وأخاه صلاح شاكر إلى أن يصبحا رمزين كبيرين وشهيدين عظيمين في مسيرة جهاد شعب فلسطين، إلا الإيمان الذي عمر قلبيهما، وحب الشهادة طمعا فيما أعد الله للمجاهدين والشهداء، فكان انفجارهما الرائع في الأعداء في عملية "بيت ليد" الشهيرة، وبجرأة لا تكاد توصف، ما الذي دفع الشهيد رائد زكارنة وخالد الخطيب وأنور عزيز وغيرهم كثيرين أن يصبحوا عناوين على مرحلة صاعدة من مراحل تاريخ شعبنا، ليصبحوا أمثلة تردد على غرار ذكر أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام الطاهرين، إنها قيمة الشهادة والشهداء.
    ما الذي دفع نسيبة بنت كعب المازنية لكي تقف بسيفها في أُحد تدافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام وتقاتل الأعداء قتالا شديدا؟ ما الذي دفع سعد بن ربيع أن يقول بكلمات عظيمة، وهو يفارق الحياة الدنيا، تُسجل بأحرف من نور، حيث يروي زيد بن ثابت قائلا : " بعثني رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم أحد أطلب سعد بن ربيع، فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت يا سعد : إن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقرأ عليك السلام ويقول لك أخبرني كيف تجدك؟ فقال وعلى رسول الله السلام، قل له : يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خَلُص إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وفيكم عين تطرف .. وفاضت نفسه من وقته".
    يا شباب الإسلام وفتيته، هذا شيخكم الصحابي الجليل "أبو أيوب الأنصاري" الذي رفع شعاره في حياته "انفروا خفافا وثقالا"، مقتبسا إياه من قوله سبحانه وتعالي "انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" التوبة، ورغم كبر سنه وضعف بصره إلا أنه خرج مع جيوش المسلمين في فتح القسطنطينية ليستشهد هناك ويدفن هناك ويصبح رمزا بارزا في تاريخنا، ومعلما مهما من معالم تركيا المسلمة. والنفير الخفيف والثقيل يعني إنفروا صغارا وكبارا، شبانا وشيوخا.
    يا شباب الإسلام ألا تذكرون مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين يوم أحد؟ حين جال المسلمون بعد عودة فرسان المشركين، ثبت مصعب وفي يده اللواء، وأقبل فارس من فرسان قريش "بن قميئة" فضرب مصعب على يده فقطعها، وحمل مصعب اللواء بيسراه وهو يقول : "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، فضرب بن قميئة يده اليسرى فقطعها، فحنا مصعب على اللواء وضمه بعضدية وهو يقول : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، فعمد ابن قميئة إلى رمحه فأنفذه إلى صدره، ووقع مصعب وسقط اللواء ... ولكنه ارتفع من جديد في مسيرة الإسلام الصاعدة... واليوم يا فتيه الإسلام اللواء في أيديكم، فهل تدعوه يسقط ؟
    إنني على يقين كما لم يقبل "مصعب بن عمير" عليه رضوان الله أن يسقط اللواء، بأنكم لن تقبلوا، وإنما ستعملون على النهوض به رغم كثرة الخطوب والأنواء، وإنكم أهل لذلك، وتضحياتكم العظيمة ومواقفكم الشجاعة تدلل على أهليتكم لذلك.
    يا فتية الإسلام وشبابه، رسول الله يستنهضكم كما استنهض المسلمين الأوائل لمعركة بدر، حيث أجابه المقداد بن الأسود "يا رسول الله .. امض لما أراك الله، فنحن معك ... والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، بل نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ...!! والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك من خلفك، حتى يفتح الله لك".
    وقد أجاب سعد بن معاذ رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم بدر بقوله : "يا رسول الله ... قد أمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبَّر في الحرب صدَّق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله".
    وأنتم يا فتية الإسلام ألم تؤمنوا برسول الله ؟ ألم تصدقوا بأن ما جاء به هو الحق من ربه؟ ألم تعطوا ر سول الله العهود والمواثيق؟ بلا والله لقد آمنتم وصدقتم وأعطيتم العهود والمواثيق، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يحثكم اليوم لإغاظة الأعداء، وإراقة دمائهم دفاعا عن معتقداتكم، ودفاعا عن مقدساتكم، دفاعا عن ذوي الشهداء والمعتقلين، ودفاعا عن المستضعفين في الأرض، الذين يستغيثون بالله أن ينصرهم ضد الظالمين، فكونوا أنتم جنود الله التي تضرب العدو، فتزلزل كيانه وتنفجر فيه فتهد أركانه.
    كونوا أنتم غوث الله الذي يلقي الصبر والطمأنينة على قلوب المستضعفين في الأرض، ويشفي صدورهم من الغيظ من الأعداء... يا فتية الإسلام قاتلوا من بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن خلفة وعن يمينه وعن شماله لتعيدوا أمجاد المقداد بن عمرو وسعد بن معاذ، فرسول الله عليه الصلاة والسلام محاصر من أنظمة الردة ومن بغي بني إسرائيل، وتسلط الاستكبار العالمي، مسرى ر سول الله يستغيث بكم، فجددوا العهد والبيعة مع الله ومع رسوله، كونوا صبَّرا في الحرب، صدَّقا في اللقاء ... تجمعكم جنات الله مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

    مكارم الشهداء:
    خص الله سبحانه الشهداء بكرامات ومزايا تكافئ جَلَدَهم وتضحياتهم بأضعاف مضاعفة، ومنحهم من العطايا والهبات ما رغبهم في سلك درب الشهادة حاثين الخطى، لعلهم يلحقون بركب الشهداء، وإذا ما حاولنا أن نحصي أهم هذه الكرامات نجد:
    1- الحياة التي يحيونها بعد قتلهم يعيشون في الجنات ويتفيأون الظلال ويأكلون الثمار ويسرحون بين أنهارها {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران-169)
    2- رغم هول الخطوب وبارقة السيوف ودوي الانفجارات وتقطع الأوصال إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر: " بأن الشهيد لا يجد من ألم القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرصة".
    3- إن الله سبحانه يكافئ الشهداء بالأمن يوم الفزع الأكبر تعويضا عما لا قوه من أهوال الحروب، سواءً كانت حشود الجيوش أو قعقعة السيوف، أو قصف المدافع أو أزيز الرصاص أو ضجيج الطائرات وصوت الانفجارات، وجاء في الحديث أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عليه السلام عن هذه: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله}، من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: هم شهداء الله.
    4- يُغفر للشهداء مع أول دفعة دم تخرج من أجسادهم الطاهرة، حيث تغفر للشهيد كل ذنوبه وإن كانت كبائر إلا الدين، كما أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي قتادة، أنه سمع رسول الله عليه الصلاة والسلام يذكرهم بأن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال : يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام : نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام كيف قلت ؟ قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي، فال رسول الله عليه الصلاة والسلام نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك.
    5- يجار من عذاب القبر، حيث جاء في الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أن الناس يعذبون في قبورهم ويتعرضون لضغطات القبور التي تؤدي إلى تداخل الأضلاع إلا أن الشهيد لا يعذب في قبره، حيث جاء في الحديث: "أن رجلا سأل النبي عليه الصلاة والسلام: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة" رواه النسائي.
    6- يُكرم الشهيد بأن يلبس تاج الوقار، حيث أن الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها، كيف لا ؟ وهو قد تمرد على الدنيا ونعيمها ومتاعها، أملا فيما عند الله سبحانه، فلذلك منحه الله عز وجل هذا التاج، الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها.
    7- يزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، يطوف عليهم في ليلة واحدة، حيث يُعطى من القدرة على ذلك، وهن لسن كنساء الدنيا، إنما هن غاية في الحسن والجمال والنضارة والبهاء، إذا نظرت إحداهن إلى الدنيا أنارت وأشرقت من ضياء وجهها.
    8- يشفع الشهيد في سبعين من أهله وأقاربه كرامة للشهيد، يكرم الله به أقرباءه "أبيه - أمه - إخوانه - أخواته والمقربين"، حيث يكون لهم شفاعتان شفاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام وشفاعة الشهيد، وجاء في الحديث الذي يرويه المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة من دمه، يرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه".

    العمليات الاستشهادية:
    حدثنا القرآن الكريم عن بني إسرائيل بأنهم لا يقاتلون إلا في قرىً محصنة أو من وراء جدر، حيث قال تعالى في سورة الحشر "لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرىً محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا و قلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " الحشر "14".
    ومن خلال دراسة واقعهم العملي في ظل حروبهم نجد أنهم يتحصنون بأحصن القلاع، كقلاع خيبر وبني قريظة وبني النضير، وكما كان "خط بارليف"، الذي أقاموه على الضفة الشرقية لقناة السويس، ونجد أنهم اليوم يمتلكون أحدث الدبابات والطائرات، ويعملون على تزويد جنودهم بالدروع وأحدث الوسائل، لتجنب وقوع القتل والإصابات فيهم، لأن العنصر البشري لديهم شحيح وعزيز، وهم لا يبالون كثيرا بالخسائر المادية كما يتألمون كثيرا للخسائر البشرية، في ظل هذا التحصين الكبير، وفي ظل مقاومة أبناء شعبنا للاحتلال، كانت خسائرنا دائما أكبر وكانت خسائرهم وبالذات على المستوى البشري كانت قليلة، وحتى يتم إلحاق أكبر قدر من الخسائر البشرية، وحتى يتم تجاوز القلاع والحصون والدبابات الصهيونية، ابتكر إخواننا المجاهدون سواء كانوا في لبنان أو في فلسطين، العمليات الاستشهادية، وهذه تجعل التحكم فيها في يد المجاهد الاستشهادي يفجرها وقتما شاء، مما يضمن إسقاط أكبر عدد من القتلى في صفوف قوات الاحتلال ومستوطنيه، ونجحت هذه العمليات نجاحا كبيرا سواء ضد قوات المارينز الأمريكية، ومقر الحاكمية الصهيونية في صور وصيدا بُعيد الاجتياح الصهيوني للبنان، وكذلك ضد القوات الصهيونية في فلسط ين، كما حدث في عمليات "بيت ليد" الشهيدين أنور سكر وصلاح شاكر، أو "كفار داروم" الشهيد خالد الخطيب، ونتساريم الشهيد هشام حمد، أو وسط مستوطنيه ومدنييه مثل عمليات القدس و"ديزنغوف والخضيرة وغيرها".

    هذه العمليات كانت لها نتائج عديدة ومهمة جدا:
    أولا ً: أن العدو الصهيوني كان يضرب دائما عمقنا العربي والإسلامي بدباباته وطائراته، دون أن تتمكن الجيوش والطائرات العربية من الوصول إلى عمقه لتزعزع أمنه الداخلي، فوصلت العمليات الاستشهادية إلى هذا العمق وفجرته، مما ساهم في وجود ما تم تسميته بـ "توازن الرعب" مع العدو الصهيوني.
    ثانيا: حطمت هذه العمليات خرافة الأمن الداخلي للمجتمع الصهيوني، بحيث أصبح الكيان الصهيوني عاجزا عن حفظ أمنه العسكري أو المدني، وتمكن المجاهدون من اقتحام كل الحواجز العسكرية، وأنظمة المراقبة الإلكترونية وتجاوز قوات الأمن المتحركة، ومن ثم الضرب بقوة ضد الأهداف المحددة بنجاح كبير.
    ثالثاً: تمكنت هذه العمليات من تحقيق النجاح المطلوب بعد اختيار الأهداف بدقة كبيرة، يتم التنفيذ بإرادة وتحكم كبيرين، مما يجعل أعداد القتلى الصهاينة تكون كبيرة. جعلت العدو يعترف بعجزه رغم امتلاكه لأحدث الآليات وأقوى الجيوش، وأحدث التكنولوجيا، وكان حديث رئيس وزرائه السابق رابين يدلل على ذلك العجز حين قال: "كيف نوقف شخصا يريد أن يموت"؟
    رابعا: هذه العمليات جعلت المجتمع الصهيوني يعيش حالة من الهستيريا والتخوف من كل شيء والرعب من كل شيء، بل أصبح العديد من أبناء هذا المجتمع يفكرون بالهروب منه طلبا للأمن، وحفاظا على الحياة مصداقا لقول الله سبحانه {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا} (سورة البقرة-96)، وتحقق فيهم قول الله سبحانه {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار} الحشر
    خامساً: أشفت هذه العمليات غليل المؤمنين الذين كانوا يتألمون لكثرة الشهداء الذين يسقطون جراء جرائم الاحتلال، ومن عوامل الدمار التي اقترفتها أيدي جنوده ومستوطنيه، وشكلت من ناحية أخرى عنصر تحفيز مهم لأبناء الإسلام بالسير على درب هؤلاء الاستشهاديين وتنفيذ عمليات مشابهة، بمعنىً آخر أصبح هؤلاء الاستشهاديون نموذجا يقتدي، ومثلا أعلى يسير المجاهدون على خطاهم.
    سادساً: شكلت هذه العمليات عنصر ردع للاحتلال، والذي أطلق العنان لأجهزة أمنه وجنوده باغتيال وتصفية رموز شعبنا ومجاهديه، فكانت العمليات الاستشهادية الانتقامية تكبح جماح العدو من التمادي في عملياته وتجعله يتردد ألف مرة قبل أن يقدم على جرائمه خوفا من الردود الاستشهادية التي يعترف بعجزه عن وقفها أو التنبؤ بمكانها أو موعدها.

    هذا العمل الاستشهادي أوقع دولة الاحتلال وأجهزتها في حرج كبير وفي عجز شبه كامل في كيفية التعامل معها والتقليل من حجم أخطارها، فلم يجد وسيلة إلا التركيز على التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، حيث تتمكن الأجهزة الأمنية من تفكيك الكثير من الخلايا العسكرية وضربها قبل أن تصل إلى عمق الاحتلال، هذا من جانب ومن جانب آخر حاول العدو أن يلقي ظلالا من الشك على منفذي هذه العمليات، وعلى مصيرهم من حيث تسميتهم "انتحاريين" وهو يعرف أن الانتحاريين لا يدخلون الجنة، بل يخلدون في النار -حسب معتقدات المسلمين-، وهو لذلك يريد أن يشكك الآخرين الذين يتحفزون للقيام بمثل هذه العمليات أو الراغبين في اللحاق بالمنفذين، فكان العدو الصهيوني يركز على كلمة الانتحار وليس على كلمة الشهادة، وللأسف جارته في ذلك وسائل الإعلام العربية وبعض المرتزقة باسم الدين والعلم، معتبرين أن هذا العمل هو من قبيل الانتحار الذي حرمه الإسلام، وإرجاعهم سبب الإقدام على هذا العمل للفشل الاقتصادي والاجتماعي لدى المنفذين، وأكثر استدلالاتهم المغلوطة والتي شكلت نوعا من الخطورة، أن هذه العمليات تستهدف المدنيين الذين نهى رسول الله عليه الصلاة والسلام من التعرض لهم وقت الحروب والمعارك. ونحن بدورنا سنناقش هذه الاستدلالات المغلوطة والمضللة لنفند ادعاءات الصهاينة، ولنكشف زيف ادعاءات المتاجرين بالدين، أو وعاظ السلاطين، ونبدأ من النقطة الأخيرة.

    استهداف المدنيين:
    في البداية يجب أن نقرر حقيقة يفهمها الجميع: أن المجتمع الصهيوني مجتمع عسكري، فالذي لا يكون جنديا في مواقع القتال، فهو جندي احتياط، سواءً كان رجلا أو امرأة يتم استدعاءه وقت الطوارئ، وكذلك أن المجتمع الصهيوني مجتمع مسلح، حيث ينتشر السلاح في كل بيت تقريبا، فهو إذن مجتمع حربي، ومن ناحية أخرى فإن مدنييه قبل عسكرييه هم مغتصِبون، اغتصبوا ديارنا وبيوتنا ومزارعنا بعد أن هجّروا أهلنا بقوة السلاح، وتحت تهديد المذابح والمجازر، وكذلك عمليات الاستيطان حيث يعتدي المدنيون الصهاينة على ما تبقى من أرضنا وبحماية جنود الاحتلال وآلياته، وما يصاحب ذلك من عمليات القتل والتخريب. ألا يستحق ذلك ضرب هؤلاء المدنيين إذن من باب رد العدوان بمثله وفق المنطق القرآني {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} ونحن نرد العدوان الصهيوني، إنما نوجه رسالة أخرى لكل من يفكر من اليهود الصهاينة بالقدوم إلى دولة الاحتلال للإقامة فيها بدلا من شعبنا المهجر - أن مصيره إلى القتل وأن مستقبله في المجهول، بالإضافة إلى كون الصهاينة يقتلون أبناءنا وأطفالنا ونساءنا، ومن حقنا أن نعاملهم بالمثل.

    ادعاء الانتحار:
    صحيح أن الإسلام حرّم الانتحار، وتهدد المنتحرين بالخلود في نار جهنم، سواءً كان الانتحار بالسكين أو بالسم أو التردي من فوق جبل أو عمارة أو بإطلاق نار أو بتناول الأدوية الكيميائية، والانتحار هو محاولة أن يضع المنتحر حدّاً لحياته، نتيجة لفشله، إما على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، أو نتيجة لعقد نفسية، أو نتيجة لليأس والإحباط، فهذا يدفعه إلى الهروب من الحياة لعدم قدرته على مواجهتها ومواجهة إحباطاتها، أما المجاهد الاستشهادي، فهو من أكثر الناس تفاؤلا ًفيها، ومن أكثر الناس نجاحا على المستوى الإيماني والاجتماعي والاقتصادي، ومن أكثر الناس أخلاقا ومن أطهرهم سلوكا، وهو من أنجح الناس على مستوى العلاقات الاجتماعية، فهو بعيد إذا عما يدعونه من الفشل الاجتماعي والاقتصادي، وهو إذ يُقدم على هذا العمل لا يترك الحياة الدنيا، إلا لينتقل إلى الحياة الأخرى والتي فيها النعيم والخلود {وللآخرة خير لك من الأولى} (الضحى-6)، {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} (القيامة-21)، والتي فيها خير الصحب وأطهرهم {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحُسن أولئك رفيقا} (النساء 69)
    ثم إن هؤلاء الاستشهاديين حين يقدمون على فعلهم الجريء إنما يهدفون إلى إلحاق أكبر الخسائر في المجتمع الصهيوني، وإسقاط أكبر عدد من القتلى فيهم، فهؤلاء إذاً ليسو انتحاريين، وحرام على المسلمين تداول هذا المصطلح، بل هم استشهاديون يبتغون ما عند الله، يأملون أن يلحقوا بالأنبياء والصالحين والشهداء السابقين ...

    {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ... }
    ومن بين المقولات المحبطة، والدعايات المثبطة، والتي حاولت أن تثير بعض الشبهات حول العمليات الاستشهادية، تلك المقولة "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، التي روج لها بعض الجهلاء والعملاء المنتشر ين في الأوساط والمؤسسات الفلسطينية، مدعين أن الإقدام على مثل هذه العمليات هو وقوع تحت طائلة النهي الإلهي، خصوصا أن هذه المقولة هي شطر من آية قرآنية وردت في سورة البقرة "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" (البقرة - 195)، وظاهر هذه الآية يفيد : أن المسلمين مأمورون بالإنفاق في سبيل الله، وأن عدم الإنفاق استجابة للأمر الإلهي، فيه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، خصوصا أن الآية السابقة، قد جاءت بعد آيات تحث المسلمين على القتال في سبيل الله ضد المعتدين والكفار، والقتال يجب أن يكون شاملا، حتى لا تكون الفتنة، لا في الدين ولا في النفس أو المال، والآيات من سورة البقرة (193-195) "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين، وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ... " إن الإنفاق هنا يأتي بمعنى الإنفاق في سبيل الله، والإنفاق على رد العدوان والبغاة، والإنفاق على القتال لتجنب حدوث الفتنة، وعدم الإنفاق يؤدي إلى إلقاء النفس في التهلكة.
    وإن استخدم الادعاء لهذا الشطر من الآية وبهذا الأسلوب الو ضيع، إنما يلغي فرضية الجهاد من الأساس لأن الجهاد قتال وفيه قتل والقتل فيه تهلكة، إذن يجب عدم قتال المعتدين والظالمين، لأن في ذلك إلقاء بالنفس في التهلكة -حسب زعم أولئك الجهلاء- ولذلك نقرر أن عدم القتال في سبيل الله وعدم الإنفاق على القتال في سبيل الله هو الذي يؤدي إلى إلقاء النفس إلى التهلكة، كما تبين الآيات القرآنية السابقة.

    الأدلة الشرعية:
    حث الله سبحانه المسلمين على الجهاد في سبيله، وعلى مقاومة البغاة والظالمين، وهو يعلم أن في تشريع الجهاد قتل سواءً للمسلمين أو لأعدائهم، بل سطّر ذلك صراحة في كتابه العزيز "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ..." إذن فالمسلم الذي يدخل المعركة ليس بضامن أن يخرج منها سالما، بل كان يتمنى على الله سبحانه أن يرزقه الشهادة فيها، لما يعلمه من منزلة الشهيد وكرامته عند الله وحياته المستمرة.
    وهذا أحد صحابة رسول الله "البراء بن مالك" في معركة "تُستُر" ضد الفرس، حين حادثه أحد أصحابه قائلا: يا براء... أتذكر حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه: "رب أشعث أغبر ذي زبيبتين لو أقسم على الله لأبره... منهم البراء بن مالك... قال نعم. قال: فادع الله أن ينصرنا عليهم، فقال: اللهم مكنّا من ظهورهم وانصرنا عليهم.. وأُقسم عليك أن ترزقني اليوم الشهادة في سبيلك، فكان أن قضى شهيدا في هذه المعركة وقد استجاب الله لدعائه، وليس هو الوحيد الذي يتمنى على الله الشهادة، بل نجد كل المسلمين يدعون الله صباح مساء أن يرزقهم الشهادة في سبيله.
    ويوم بدر وقف رسول الله عليه الصلاة والسلام يحرض المسلمين على قتال المشركين ويحثهم على الصبر والثبات قائلا: "والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل صابر محتسب مقبل غير مدبر فيُقتل فله الجنة" فيسمع هذا الكلام "عُمير بن الحمام" رضي الله عنه فيقول: يا رسول الله.. أليس بيني وبين الجنة سوى أن يقتلني أحد هؤلاء؟ فقال حد هاؤلاء، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلا : بلى.. فيلقي عُمير تمرات كانت في يده ويلتحم بالمشركين وينال الشهادة...
    إذن الجهاد في سبيل الله قائم على قتل المشركين وقتل المسلمين، ووجدنا في تاريخنا الإسلامي نماذج رائعة من الثبات والصبر في أرض المعركة، حيث كان أحدهم يحفر لنفسه حفرةً ينغرس فيها حتى لا يهرب من أرض القتال، وكان بعضهم يعقل قدمه حتى لا يفكر بالهرب أو التراجع وحتى لا ينطبق عليه التحذير الإلهي من التولي يوم الزحف "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيز إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير" (الأنفال-15-16)
    وكذلك نجد في موقف الصحابي الجليل البراء بن مالك في معركة اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وجنوده ما يدعم أدلتنا هذه، حيث جاء عنه، بعد انكشاف مسيلمة وجنوده وهروبهم إلى حديقة "حصن" لهم كانت معدّة لذلك الغرض وتحصنوا بها، وأوشكت أن تفتر عزيمة المسلمين، اندفع البراء بن مالك طالبا من إخوانه أن يحملوه على أسنة حرابهم، ويلقوه إلى داخل الحصن ليفتح لهم الأبواب، ولم ينتظر منهم ذلك، بل تسلق بنفسه جدران الحصن وألقى بها وسط الأعداء المدافعين عن الحصن، وجالدهم بسيفه وبيده الأخرى كان يحاول فتح باب الحصن، حتى تمكن في النهاية من فتح باب الحصن، ولكن بعد أن أصابته في جسده الطاهر بضع وثمانون ضربة وطعنة ورمية... هذا الفعل ربما يصوره بعض الجبناء بأنه تهور طائش، ولكنه جاء من صحابي جليل يتمتع بإيمان كبير وبشجاعة خارقة، حققت للمسلمين انتصارا عظيما وفتحا مجيدا. هذا الصحابي الذي يفهم حقيقة الإسلام، وحقيقة التضحية، وحقيقة المتاجرة مع الله سبحانه.
    ومما يدعم أدلتنا السابقة، فِعلُ الصحابي الذي سبق ذكره، وكسر غمد سيفه بعد أن أقرأ أصحابه السلام، وقاتل حتى قُتل. ودليل آخر، فعل الصحابي الذي سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام عن الفعل الذي يُضحك الربُّ من العبد فقال عليه الصلاة والسلام : "أن يغمس يده في العدو حاسراً"، والاستشهاد في سبيل الله هو من قبيل غمس اليد والعظم والدم في العدو بلا دروع وبلا تروس، فهذه من أعظم الأعمال التي تضحك الرب.
    والنقطة الأهم التي نعتمد عليها في الاستدلال بشرعية الفعل الاستشهادي حديث النبي عليه الصلاة والسلام : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ..." فنية هذا الاستشهادي هي إغاظة الأعداء بإلحاق أكبر قدر من الخسائر بهم، استجابة لنداءات الله المتكررة في القرآن الكريم، ومن أمثلتها "فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما"، واستجابة لتوجيهات رسول الله عليه الصلاة والسلام، ودفاعا عن المستضعفين في الأرض من الرجال والنساء والولدان، ودفاعا عن المقدسات المنتهكة من قبل أعداء الله... فإذا كانت هذه نيته، فإن له المقابل في ذلك، فإن له الشهادة والجنة، وأن يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
    وقد أفتى بذلك كثير من علماء المسلمين المخلصين، وهكذا تحولت الشهادة إلى أمنية يتمناها كل مسلم، ويدعو الله سبحانه أن يرزقه إياها في كل وقت وفي كل حين، وكذلك أصبحت الشهادة قيمة متأصلة في نفوس أبنائنا وآبائنا وأمهاتنا، بحيث يندفع الجميع الى مواطنها، عسى أن ينالوا شرفها وأجرها، وهذا جعل أبناء شعبنا يشكلون نموذج التضحية والفداء، ونموذج الأحياء والاقتداء لأمتنا جميعاً.
    وبناءً عليه نرجو من الجميع أن لا يفرطوا في هذه القيمة، وأن لا يتنازلوا عن هذه المكانة لأن فيها الرفعة وفيها الفوز في الدنيا والآخرة، وفيها إغاظة الأعداء، وشفاء لصدور المؤمنين، وفي كل المواقع والأوقات يظللنا قول الله سبحانه {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون، قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، فتربصوا إنا معكم متربصون} (التوبة 51-52)، فنحن نرجو إحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة، ولا ثالث لهما.
    وإذا ما تخلينا عن طلب الشهادة، والاستشهاد في سبيل الله فسنبقى في دائرة الضعف والهوان تتكالب علينا الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها، لا تقيم لنا وزنا، ولا تذرف علينا دمعا، لأن الأمم لا تحترم إلا الأقوياء، وأن أول طريق القوة ينبع من عدم الخوف من الموت بل العمل على اقتحام حياضه، وهذا ما حرص على تعليمنا إياه الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقوله : "احرص على الموت توهب لك الحياة".

    تمت بحمد الله ،،،

    لتحميل الدراسة كاملة الملف مرفق

    حمل الملف الآن من هنا

    أضف تعليق



    تعليقات الفيسبوك

حسب التوقيت المحلي لمدينة القدس

حالة الطقس حسب مدينة القدس

استطلاع رأي

ما رأيك في تضامن الشارع الفلسطيني مع الاسرى في معركتهم الأخيرة في داخل سجن عوفر؟

43.5%

16.7%

35.2%

4.6%

أرشيف الإستطلاعات
من الذاكرة الفلسطينية

استشهاد الأسير المحرر محمد محمود حسين جودة من مخيم جباليا بغزة بسبب نوبة قلبية وكان الأسير قد أمضى 10 سنوات في السجون الصهيونية

29 مارس 2001

الاستشهادي أحمد نايف اخزيق من سرايا القدس يقتحم مستوطنة نيتساريم المحررة وسط القطاع فيقتل ويصيب عدداً من الجنود

29 مارس 2002

الاستشهاديان محمود النجار ومحمود المشهراوي يقتحمان كيبوتس "يد مردخاي" شمال القطاع فيقتلا ويصيبا عددا من الجنود الصهاينة

29 مارس 2003

قوات الاحتلال الصهيوني بقيادة شارون تبدأ باجتياح الضفة الغربية بما سمي عملية السور الواقي

29 مارس 2002

الاستشهادية آيات الأخرس تنفذ عملية استشهادية في محل تجاري في القدس الغربية وتقتل 6 صهاينة وتجرح 25 آخرين

29 مارس 2002

قوات الاحتلال الصهيوني تغتال محي الدين الشريف مهندس العمليات الاستشهادية في حركة حماس

29 مارس 1998

الأرشيف
القائمة البريدية